السياسة التركية تجاه القضية الكردية
ما أشبه الليلة بالبارحة
بقلم: الدكتور علي ثابت صبري
مازالت معاناة الشعب الكردي في تركيا مستمرّة، ومازال المناضل والمفكر عبدالله أوجلان، أسير في قبضة الدولة التركية بين جدران إمرالي، ومازالت السياسة التركية، تجاه قضية الشعب الكردي كما هي، لم تتغير منذ إعلان الجمهورية التركية الحديثة.
إنّ النقلة النوعية في مسار القضية الكردية، وطرحها إقليميًّا ودوليًّا في شكلها الحقيقي، وإظهار الظلم الذي تعرّض له الشعب الكردي، على مدار تاريخه الحديث والمعاصر، وإثبات الجرائم التركية المتنوعة ضده، قد هزّت الأوساط التركية هزة قوية، وعلى إثرها، تحركت المنظومة التركية محاولةً خداع الشعب الكردي؛ لتثبيت همّته وإجهاض قضيته.
كما مثّل تأييد الرئيس التركي لمبادرة حليفه، دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية، لإنهاء النزاع التركي الكردي، خدعة ليست جديدة على الشعب الكردي، وقد تضمّنت الدعوة أيضًا، دعوة السيّد عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، (المحجوز قسريًّا منذ 25 عامًا لدى السلطات التركية)، للقدوم للبرلمان التركي، ونبذ الإرهاب وحل الحزب وفقًا لبهجلي. أي عقل يصدق هذا الاستخفاف!. وممّا زاد الطين بلة، رؤية أردوغان لدعوة بهجلي، أنّها نافذة لفرصة تاريخية، ودعوته للشعب الكردي: “إخواني الأكراد الأعزاء، نتوقع منكم أن تمسكوا بقوة، بيد بهجلي الممدودة بصدق”.
جاءت هذه الدعوة لإيصال حرب الإبادة ضد الكرد إلى نتيجة، لصالح الفاشيين الترك، ولتخفيف الضغط على الداخل التركي، بعد إخفاقات الإدارة التركية، في تنفيذ مخططاتها التوسعية (العثمانية الجديدة)، وهي ليست جديدة، فقد استخدمها من قبل مصطفى كمال في حرب الاستقلال.
فقد استخدم أتاتورك تلك السياسة، لبناء القومية التركية على حساب الشعب الكردي، ونجح في استمالة الشريحة الأكبر من الكرد في الولايات الشرقية، نحو حركته الخادعة لهم بالتأكيد. حيث شاركوا في مؤتمر سيواس (4 سبتمبر 1919)، بوفد مؤلف من شيوخ العشائر الكردية (رائف أفندي، شوقي أفندي وسامي بك). واتّخذ المؤتمر المذكور قرارات، بتحويل جمعية الدفاع عن الولايات الشرقية، إلى جمعية الدفاع عن حقوق الأناضول وبلاد الروم، وعارض فكرة الدويلات والكيانات المستقلة، ورفض الانتداب، ومضى كمال في تعبئة الكرد في حركته، لمحاربة الحلفاء واليونان والكرد الآخرين الميالين للاستقلال. ووقف الزعماء الكرد مع كمال، مُتخلّين عن طموحاتهم القومية، ولكنّ للأسف لبناء القومية التركية، ولم يدافعوا عن السيطرة والدولة في مناطقهم، ضد الأرمن والروس، وإنّما ضد القوميين الكرد أنفسهم أيضًا، وذهبوا لمقاتلة اليونانيين وقوات الحلفاء، وكان معظم قوات معارك سقاريا وإينونو، والمعارك ضد الفرنسيين في كيليكيا من الكرد.
لذا، تمثّل دعوة بهجلي، امتداد للسياسة الكمالية التي استغلّت، الشعب الكردي في تأسيس الجمهورية التركية، ولكنّ في هذه المرّة، تطمح السياسة التركية في استغلال الشعب الكردي، لبقاء الجمهورية في ظل المتغيرات، التي تضرب منطقة الشرق الأوسط لإعادة هيكلتها، وفق مصالح المنظومة الدولية الحاكمة.
حيث أنّ الأوضاع السياسية الداخلية في تركيا، تلعب دروًا رئيسيًّا في هذه المبادرة غير الجادّة، لتسوية القضية الكردية. كذلك فإنّ بقاء أردوغان في السلطة، مرهون بكسب تأييد الكرد، فقد حكم تركيا لأكثر من عقدين من الزمان، أولًا كرئيس للوزراء، ثم كرئيس للجمهورية (بعد تعديل الدستور وزيادة صلاحيات الرئيس). ثم أعيد انتخابه لولاية رئاسية ثالثة العام الماضي، ووفقًا للدستور ما لم يدعو البرلمان إلى انتخابات مبكرة، فهو غير مؤهل للترشح في السباق الرئاسي عام 2028. وحتى يتمكّن الائتلاف الحاكم من تمرير تعديلات دستورية، تسمح بترشح أردوغان مرة أخرى، عليه الحصول على دعم حزب الديمقراطيين الكرد. ويمكن طرح التغيير الدستوري للاستفتاء، إذا أيّده 360 نائبًا في البرلمان، المكوّن من 600 مقعد. يمتلك الائتلاف الحاكم 321 مقعدًا، بينما يمتلك حزب الديمقراطيين 57 مقعدًا.
المساعي التركية لكسر إرادة الشعب الكردي
إنّ نجاح خطة أتاتورك لخداع الكرد، ارتبطت بعوامل كثيرة من بينها؛ مخاطبة شرائح كردية غير واعية للمخططات، والإستهدافات التي لحقت بالقضية الكردية، أمّا خطة بهجلي تخاطب الآن الكرد، ومنهم رفاق أوجلان الكرد الأحرار، الذين تم تأسيسهم وتوعيّتهم بحقوقهم المشروعة، واحترامهم لكل شعوب المنطقة؛ لذا، كان الطبيعي أنّ تقوم الإدارة التركية بعد عدم منطقية المبادرة وكشف الكرد لها، بالعمل على كسر إرادة الشعب الكردي، من خلال نعت أي كردي يطالب بحقوقه بالإرهابي، بل وصل الأمر لكل من هو كردي. وكذلك قيام حملة واسعة من الاعتقالات، والاختفاء القسري بحق الشعب الكردي في تركيا، وتحييد القوى الديمقراطية التركية من دعم الكرد. بالإضافة إلى استمرارية حبس وعزل السيّد عبدالله أوجلان، والتي تمثّل ضربة قويّة للقضية الكردية، رغم نجاح مساعي الحملة الدولية، لإطلاق سراح السيّد أوجلان، في تشكيل ضغط على تركيا، والتي تمخض عنها زيارة ابن أخيه عمر أوجلان. ووجّه السيّد رسائل من شأنها، إقرار التعايش السلمي بين الشعبين الكردي والتركي، ووقف الصراع التركي الكردي، وامتلاك الحلول الدبلوماسية الفاعلة، لحل كافة المعضلات والمشكلات. ولكنّ كيف وهو أسير بين جدران إمرالي، كذلك تضمّنت رسائل السيّد أوجلان للشعب الكردي، بضرورة التماسك والثبات في المطالبة بحقوقه المشروعة، ومواجهة عمليات كسر إرادته بكل حزم.
مبادرة بهجلي والميثاق الملي وجهان لعملة واحدة
تمثّل مبادرة بهجلي وجه جديد للميثاق الملي، الذي طالما سعّت الإدارة التركية، لإعادة انتاجه من جديد، بعد فشل مشروعها التوسّعي الاستيطاني، حيث ترتكز المبادرة على تصفير المشاكل الداخلية التركية، لمواجهة التحديات الإقليمية على حساب الشعب الكردي مرة أخرى. وتتبنى المبادرة:
1. حلُّ القضية الكردية من خلال، دمج الكرد في القومية التركية، وهو استمرار لسياسة محو الهوية الكرديّة، القائمة منذ مائة عام.
2. وقف خسائر الحكومة التركية في مواجهة الهجمات، التي ينفذها حزب العمال الكردستاني.
3. تسريع عملية التطبيع التركي السوري، ووضع الكرد بين شقى الرحى القوموي
4. حاجهُ تركيا لحل مشاكلها الداخلية، لمواجهة التهديدات الإقليمية.
وعلى هذا النحو، تمثّل المبادرة حقلة جديدة أعدّ لها، لتبرير موجات الإبادة الواسعة، التي سوف ترتكبها الدولة التركية تجاه الشعب الكردي، وليس العكس كما يتم الترويج لها، داخل الأوساط التركية والإقليمية، بأنّ الإرادة السياسية التركية تريد حل القضية الكردية. وهذا غير صحيح؛ لأنّ المبادرة اعتقلت كل من هو ضدها؛ لذلك خرجت من إطار المبادرة إلى إطار المؤامرة.
الأخوة الزائفة
دائمًا ما استخدمت السياسة التركية، مصطلح الأخوة لخداع الكرد، فمثلما حدث في استعدادات مصطفى كمال لحرب الاستقلال، واستخدامه مصطلح الأخوة بين الأتراك والكرد و وتغليفه دينيًّا، ومن ثم، أن انتهت الحرب وتمكّن الكماليين، تحوّلت الأخوة إلى جحيم على إثره، بدأت خطة إبادة الشعب الكردي، ومحو هويته ودمجه قسرًا في القومية التركية، متناسين الأدوار المحورية للشعب الكردي في الحضارة الإنسانية، وكذلك دوره الفاعل في بقاء الدولة العثمانية إلى أقصى فترة ممكنة آنذاك، وحتى سقوط القناع التركي، وقيام الجمهورية التركية الحديثة على جثث الكرد.
وعلى خط متوازٍ، تضمّنت دعوة بهجلي وتأييد أردوغان الأخوة التركية الكردية، والتي على إثرها أيضًا، تستكمل خطة إبادة الشعب الكردي، بمزيد من الاعتقالات والاختفاءات القسرية، والقمع وتعقب كل مؤيدي حزب العمال الكردستاني، بل وصل الأمر إلى الاشتباه في كل ما هو كردي.
وفى 4 نوفمبر أقالت الحكومة التركية ثلاثة رؤساء بلديات، ينتمون إلى (حزب المساواة وديمقراطية الشعوب)، والذي يمثل شريحة كبيرة من الكرد من مناصبهم، بتهمة القيام بنشاطات “إرهابية”، بينما في الوقت ذاته، تقول السلطات التركية، إنّها تريد مد اليد “للأشقاء” الكرد!. وقد عيّنت مسؤولين من جانبها، للحلول مكان رؤساء بلديات ماردين وباتمان وخلفيتي الواقعة في جنوب شرق تركيا، والذي يقطنه غالبية كردية، و ما جاء في بيان وزارة الداخلية التركية، يؤكّد سوء النيّة تجاه الكرد. حيث تمحور البيان حول انتماء رؤساء البلدية، هؤلاء إلى حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، ثالث قوة سياسية في البرلمان التركي، والذي تتهمه السلطات بروابط مع مقاتلي، حزب العمال الكردستاني.
هذه هي الأخوة التركية الكردية، تمد يد السلام أمام الكاميرات وفى المحافل، بينما تستمر سياستها خلف الكاميرات في تنفيذ، الإبادة الممنهجة ضد الشعب الكردي، كذلك دعوة السيد عبدالله أوجلان للبرلمان التركي، بينما هو قابع في أسره منذ 25 عامًا. هذه هي دعوة بهجلي، نموذج مكرّر، ولن يخدع الشعب الكردي.
أوجلان يمتلك الحلول
قبل هذه الدعوة الزائفة بأيام، وفى أثناء زيارة عمر أوجلان لعمه السيّد عبدالله أوجلان، أطلق أوجلان مبادرة لحل مشكلات الشعبين الكردي والتركي، وقال: “إذا توافرت الظروف، فإنّني أملك القوة النظرية والعملية، لنقل العملية من أرض الحرب إلى الأرضية السياسية والقانونية، لدي القوة لهذا”.
يستطيع أوجلان، أن يلعب دورًا قويًّا في الحل الديمقراطي للقضية الكردية، ويستطيع أن يقوم بواجبه ودوره من أجل السلام والديمقراطية في تركيا، وخدمة الكرد و تركيا، والديمقراطية تركيا.
وفى هذا الصدد، شتان ما بين مبادرة السيد أوجلان، والتي تحمل بين طياتها، إقرار الديمقراطية وتعزيز التعايش السلمي، وحل القضية الكردية حلًا ديمقراطيًّا. ودعوة بهجلي التي تحمل بين طياتها، المراوغة والتحايل على الشعب الكردي، والدليل استمرار عمليّات الإبادة تجاهه. فالسيّد أوجلان، طرح الحلول من خلال مشروعه الفكري مانيفستو الحضارة، والذي تضمّن مشروع الأمّة الديمقراطية.
صمود الشعب الكردي هو طوق النجاة
إنّ تسلّح الشعب الكردي بوعي الحقيقة، ومواجهة أساليب الحداثة الرأسمالية، التي ضربت وفرغت شعوب منطقة الشرق الأوسط من مضمونها، وإيمانه بالمجتمع الأخلاقي السياسي، وتمسّكه بتعزيز الحريّة المجتمعية التشاركية البناءة، كان الهدف الأسمى للسيّد عبدالله أوجلان ، ولا أبالغ بالقول، أنّ هذا الفكر هو سبب بقاء القضية الكردية، رغم كل المحاولات التركية لاغتيال القضية، كذلك فإنّ اختطاف السيد أوجلان في مؤامرة غير إنسانية وغير أخلاقية، كان سببه هذا الفكر، الذي ينير مصباح ديموجين ِِلشعوب الشرق الأوسط، لإعادة قراءة تاريخها، ومن ثم، استعادة وعيّها الحقيقي، ومن ثم المواجهة لتحقيق المطالب المشروعة.
فإنّ صمود الشعب الكردي في تركيا، ووعيه هو المخاض لميلاد ديمقراطية حقيقية، ولابدّ أن تعي الإدارة التركية، أنّ الأحفاد غير الأجداد، وأنّ السيد أوجلان ليس الشيخ سعيد، لذا، بات ضروريًّا أن تتصالح تركيا مع تاريخها، وتحل القضية الكردية حلًا ديمقراطيًّا، وأن تُنهي مؤامرة احتجاز وحبس السيّد عبدالله أوجلان، حتى تستطيع عبور هذه المرحلة الدقيقة من عمر منطقة الشرق الأوسط، حيث أنّ الطموحات الإسرائيلية لن تتوقف، وهو ما يؤثّر بشكل مباشر على الدولة التركية نفسها.
وخلاصة القول، لا بدّ من توفر عقلية ديمقراطية للحل، ولابدّ أن تتعامل الإدارة التركية مع القضية الكردية، بشكل أكثر واقعية، وتوافر إرادة حقيقية للحل، وأولها رفع العزلة عن السيّد أوجلان، وليس إعادة انتاج سياسات عملت على إبادة الشعب الكردي، ومحو هويته ودمجه قسرًا ضمن المنظومة القومية التركية. إنّ إيجاد حلًا ديمقراطيًّا للقضية الكردية، سيحافظ أيضًا على بقاء الدولة التركية، بشكل أفضل بكثير من انتهاج سياسيات، من شأنها الإنكار والمحو، وعلى الشعب التركي، إدراك الأخوة الحقيقية مع الشعب الكردي، والضغط على حكومته، للإفراج عن السيّد عبدالله أوجلان؛ لأنّه الركيزة الأساسية في حل القضية الكردية.ِ