العلاقات التركية – الأوروبية وأثر توسع الناتو شمالًا على الوزن الإستراتيجي لأنقرة داخل الحلف
حول التطورات الأخيرة في العلاقات التركية الأوروبية، يقول السفير شريف شاهين، سفير مصر الأسبق في العراق ولبنان وباكستان في تحليل خاص لمركز إنشاء المعلومات، بأنّه لازالت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية تلقى بظلال كثيفة على أوروبا، التي تشهد تفاعلات سياسية عنيفة؛ بسبب هذه الحرب التي أنهت عامها الثاني دون أن تحقق أيا من الدولتين حسمًا واضحًا، بل أدت إلى تورط أوروبا واستنزافها بشكل واضح، و أضحى أي مراقب يرى بسهولة خسارة القارة العجوز التي استنزفتها هذه الحرب، وفي القلب منها دول الناتو التي تمد أوكرانيا بالسلاح والذخيرة و تقدم الدعم السياسي، فيما عدا تركيا، وبالرغم من كونها أقدم دول الحلف السياسي، بسبب الوضع الجيوسياسي لأنقرة، التي باتت ترى في أثار هذه الحرب ما يؤثر على مكانتها داخل الحلف، ووزنها الإقليمي داخله بفعل تفاعلات هذه الحرب، وما أسفرت عنه من نتائج لازالت تتوالى مع استمرار أيام الصراع، وفيما يلي، نحاول أن نستعرض ملامح أثر هذه الحرب على السياسة التركية، ومدى تأثرها سلبًا أو إيجابًا بنتائجها.

فأولًا: تمتعت تركيا على مدار العقود المنصرمة ومنذ إنشاء الحلف بمكانة متميزة، عزز منها الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة والغربة، حيث كانت تركيا تشكل حدودها خط التماس الأول والأبرز للحلف مع الاتحاد السوفيتي، مما عزّز من مكانتها داخل الحلف وفي علاقاتها الأوروبية بشكل عام، وحتى انتهت هذه الحرب بسقوط الاتحاد السوفيتي، وتوسع الحلف شرقًا، بانضمام العديد من الدول الأوروبية مثل رومانيا وبولندا وبلغاريا، وهي الدول التي شكلت منافسًا حادًا للدور التركي داخل الحلف، وبالرغم من ذلك، استمرّ الدور التركي قويًا؛ بفعل حرصها على انتهاج سياسات متوازنة، جعلت من أنقرة جسرًا بين القارة العجوز وروسيا، ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
ثانيًا: أتت الحرب الروسية/ الأوكرانية بمتغيرات حادة داخل أوروبا في القلب منها تركيا، حيث سعى سياسة البنتاغون إلى استقطاب كلا من السويد وفنلندا، اللّتين عرفا بحيادها السابق إلى الانضمام إلى الحلف العتيد، وذلك ما أدى إلى موقف تركي غاضب، تمثل في رفضها انضمام كلا الدولتين إلى عضوية الحلف، لما يشكله هذا الانضمام من أثر سلبي على وزن تركيا داخل الناتو، فبعد أن كانت في الدولة الأوحد التي تتمتع بجوار جغرافي مع روسيا، أصبحت كلا من السويد وفنلندا ذات حدود مباشرة مع روسيا، مع مدى تمتع هاتين الدولتين بثقل حضاري وتكنولوجي، يمكنها من لعب دور هام في تعزيز قوة حلف الناتو الأوروبية، فضلًا عن تهديدها المباشر لقلب روسيا البيضاء.
ثالثًا: وقد أدى هذا التطوّر الأخير والخطير، إلى قيام تركيا بتعديل سياستها داخل الحلف و مع أوروبا بشكل عام، بعد أن كانت روسيا تشكل تهديدًا واضحًا لتركيا، باتت أقرب إلى تقديم تفاهمات إقليمية ودولية، عززت من علاقتهما مع تركيا؛ وذلك استنادًا إلى عدة متغيرات منها:
1_ إهمال الاتحاد الأوروبي الواضح، لطلب انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد، بالنظر إلى أنّها في حال تم قبول عضويتها؛ فستكون الدولة الإسلامية الأولى التي تم ضمها، وهو ما يدفع دول أخرى للمطالبة بنفس هذا الطلب وعلى رأسها المغرب، التي تراقب عن كثب الجهود التركية لمحاولة الانضمام إلى الاتحاد.
2_ إنّ ضم الناتو لكلا من السويد وفنلندا، قد أدّى إلى تقارب روسي تركي واضح، تمثل عزوف تركيا عن المشاركة في أي شاط عسكري بارز خلال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتجميد نشاط قواعد الناتو داخل الأراضي التركية، بحيث لا يتم استخدامها لخدمة النشاط العسكري الأوكراني.
3_ قيام تركيا بنشاط سياسي بارز لمحاولة إيقاف هذه الحرب، والدخول في وساطة روسية أوكرانية، وبالرغم من إدراكها أنّ هذه الوساطة لن تؤتى ثمارها في ضوء الدعم الأمريكي الواضح لأوكرانيا، إلّا أنّها شكلت محطة هامة في تحوّل السياسة التركية نحو روسيا، وتوصيل رسالة واضحة، بأنّها لن تكون جزءًا من نشاط الحلف ضدها، وهو الأمر الذي وضعه السياسة الروسية في الحسبان، وهي ترأس مصالح تركيا الإقليمية، سواء ما يتعلق بنشاطها في منطقة شرق الفرات مع سوريا أو شمال العراق، خلال معاركها مع حزب العمال الكردستاني. إذ لم تتخذ روسيا موفقًا واضحًا من النشاط العسكري التركي في هذه المناطق، وبل العكس كانت السياسة الروسية في كثير من المواقف، ما كانت تتجه بشكل يعامل تركيا على حساب الأمن الإقليمي في هذه المناطق، التي تشكل بورة تور واضحة.
4_ منذ انتخابات الولايات المتحدة الرئاسية عالم ٢٠١٦ واختيار دونالد ترامب رئيسًا لها، سعى إلى تهميش حلف الناتو وابتزاز الدول الأوروبية، لزيادة مساهمتها في ميزانية الحلف، والتهديد بالتعاون مع روسيا، الأمر الذي شجع تركيا على المضي في سياسة إستراتيجية تعاون سياسي وأمني مع روسيا، متجاهلة أسس ومبادئ عضويتها في الحلف، وإلى الحد الذي دفع الرئيس التركي أردوغان، إلى عقد صفقة صواريخ S-400الروسية، وبالرغم من تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على تركيا، إلّا أنّ تركيا مضت في عقد هذه الصفقة، إمعانًا في ابراز تحديها لأمريكا وأوروبا، وإظهار لمحاولة استقلالية قرارها الأمني والسياسي، وبشكل بات يهدد أسس ومبادئ حلف الناتو؛ وذلك من أجل تعظيم دورها ووجودها داخل الملف، على عكس ما روّج له العديد من القادة الأوروبيين في السابق، حتى وإن كانت بغرض الضغط على الجانب الغربي.
5_ التحوّل السياسي البارز لتركيا باتجاه تطور علاقاتها بدول منطقة جنوب المتوسط، ومحاولة تهدئة التوتر في العلاقات مع مصر، وتوسعها العسكري الإقليمي جنوب المتوسط، الذي امتد من ليبيا إلى البحر الأحمر، ليصل إلى الصومال وجيبوتي والسودان، فيما يشكل ملمح لسياسة عسكرية تركية، تسعى إلى زيادة وزنها الإقليمي ونشاطها الأمني، في منطقة شرق المتوسط و والبحر الأحمر، ردًا على تهميش دورها الأوروبي.
رابعًا: يضاف إلى ما تقدم تطورات ملف الاكتشافات الحديثة من الغاز في شرق المتوسط، والتي شكلت في السابق، بؤرة توتر في العلاقات بين تركيا وكلا من إسرائيل ومصر، إلّا أنّها في الفترة الأخيرة سعت إلى إنهاء هذا التوتر، بتحقيق تفاهمات في هذا الملف، الذي يخدم علاقاتها الإستراتيجية مع روسيا. حيث تسعى تركيا أن تكون نقطة العبور الأساسية للنفط والغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضيها، وكذلك الاستفادة من ترسيم الحدود الحرية مع كلا من مصر وليبيا جنوب المتوسط، من أجل تضييق مساحة النشاط الاقتصادي، لكلا من اليونان وقبرص، في ملف الغاز الطبيعي، وكل ذلك يزيد من أوراق الضغوط التركية لتعزيز مكانتها الأوروبية، في مواجهة محاولات تهميشها، والحد من نشاطها الإقليمي، ودورها التوسعي الذي طال مناطق هامة في قلب الدول الإسلامية المستقلة، عن الاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك في أفريقيا ومناطق هامة في منطقة الشرق الأوسط.
وغنى عن البيان، أنّ حرب غزة الأخيرة بعد قيام حركة حماس بعملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر الماضي، قد عزز أيضًا من مكانة تركيا ودورها السياسي الضاغط على أوروبا، حيث تناهض الأعمال العسكرية الإسرائيلية وسياستها العدوانية، خلال هذه الحرب الآخرة، وهو ما جعلها في مواجهة حادة مع الدول الأوروبية، التي قدمت دعمًا ماديًا وعسكريًا لإسرائيل، وخاصة إنجلترا وألمانيا وفرنسا.
والخلاصة، أنّ السياسية التركية وبالرغم من من محاولات الضغوط عليها، استطاعت أوروبا أن توظف مكانتها الجغرافية الإستراتيجية، وتعيد ترتيب أوراق الضغط لديها و أولوياتها لتعزز من مكانتها، سواء لدى حلف الناتو والولايات المتحدة أو مع روسيا، التي توصلت معها إلى تفاهمات إستراتيجية، سيكون لها ما بعدها من دول، أو فيما يتعلق بدورها الإقليمي وسياستها في منطقة الشرق الأوسط، التي تتموج بالصراعات والعنف المسلح من لبنان إلى سوريا، والعراق فليبيا، فالدول التي تشطئ على البحر الأحمر من الصومال والسودان، الأمر الذي يصعب من إمكانية تحييد دورها، إن كان على صعيد عضويتها داخل حلف الناتو العسكري، أو فيما يتصل بسياستها الإقليمية وعلاقاتها الثنائية مع دول المنطقة، وهذا البعد التركي يتطلب مراقبة ومتابعة دائمة، لتحولاته وتفاعلاته في المنطقة، وحتى لا يكون هذا الدور السريع، التأقلم مع المتغيرات الأمنية الدولية، عائقًا أمام الدوري العربي المستقبلي وخاصة الدور المصري، في مواجهة قضايا المنطقة الساخنة في فلسطين أو شرق المتوسط، امتدادًا إلى الخليج والحدود العراقية الإيرانية، وما يتصل بهذا البعد من مصالح سياسية واقتصادية وأمنية في المستقبل، أو أن يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي العربي مستقبلًا.