المحادثات العراقية التركية وتكريس مبدأ التنمية مقابل السيادة
حول العلاقات والتقاربات الأخيرة بين العراق وتركيا، يتحدث الباحث في سياسات الهوية وشؤون الشرق الأوسط، الدكتور طه علي أحمد في تحليل خاص لمركز إنشاء المعلومات.
يُواصل العراق وتركيا عملية التقارب التي انطلقت خلال السنوات الأخيرة، حيث عُقدت الجولة الرابعة للمحادثات بين الجانبين، خلال زيارةٍ لوفدٍ عراقيٍ برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين، الخميس 18 أغسطس الجاري لأنقرة. وتأتي هذه المباحثات في إطار عملية التقارب التي أطلقها الجانبان من خلال ما يُعرف بـ “الآلية الأمنية”، التي عُقد أول اجتماعاتها عام 2019، والثاني في ديسمبر 2023، بينما عُقد الثالث في مارس 2024، حيث أعلنت خلاله الحكومة العراقية حزب العمال الكردستاني “منظمة محظورة” الأمر الذي باركته أنقرة وأعلنت رضاها عنه. التطورات الأخيرة في عملية التقارب بين أنقرة وبغداد، وما يتمخض عنها من إجراءات تُمثّل محطةً مفصليةً في العلاقات بين البلدين، بل إنّها تُلقي بظلالها على الأمن الإقليمي بشكل عام، لاسيما بعد الزيارة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبغداد، والتي تم خلالها التوقيع على 27 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تمثّل أبرزُها في “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” وتدشين “مجموعة التخطيط المشترك” برئاسة مشتركة لوزيري خارجية البلدين هاقان فيدان وفؤاد حسين.
السياق العام للعلاقات التركية العراقية يعكس الشكل العام لميزان القوى بين البلدين، والذي يكشف بدوره الانحدار الذي وصلت إليه حالة الدولة العراقية، ومن جهة أخرى، تلقي هذه التطوّرات، الضوء على المشروع الإقليمي التركي، ذي الصبغة القومية الطورانية المتطرفة، والذي يقوم على عدة عناصر يتقدمها إضعاف الدولة الوطنية في محيطها الإقليمي (سوريا والعراق)، وتأمين الموارد لمواجهة الأزمة الهيكلية الخانقة، التي يعاني منها الاقتصاد التركي، والتعويل المفرط على المقاربة الأمنية في التعامل مع القضية التركية، وهو ما لم يجدِ نفعًا خلال العقود الأخيرة، بل ينعكس بالسلب على أمن الدولة والمجتمع في تركيا. ويمكن قراءة التطوّرات الأخيرة من خلال إلى الجوانب التالية:

ملاحقة حزب العمال الكردستاني
لطالما اعتبرت أنقرة القضية الكردية، أحد محددات وركائز سياستها الإقليمية، تجاه دول الجوار المباشر (سوريا والعراق وإيران)، وقد تُرجِم ذلك في المساعي التركية، لإجهاض أية تجربةٍ قوميةٍ كرديةٍ سواء كانت سياسيةٍ مثل “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” والرفض التركي المُطلَق، للاستفتاء على الاستقلال الذي أُجري في إقليم كردستان العراق عام 2017، أو كيانات عسكرية مثل “حزب العمال الكردستاني”، الذي دأبت تركيا على مطاردته منذ تأسيسه في نهاية الثمانينات، وانتقاله للعمل المسلّح عام 1984، حتى وإن استدعى الأمرُ انتهاك سيادة الدول المجاورة، كما حدث خلال السنوات الأخيرة، من خلال سلسلة العمليات، التي حملت مُسمَّى “المَخلَب”، التي انطلقت في مايو 2019، وفيها عملية “المخلب – القفل” في أبريل 2022 في مناطق متينا والزاب وأفشين – باسيان، وجبال قنديل شمالي العراق، وأخيرًا التوغلات العسكرية في عشرات القرى بمحافظة دهوك، التابعة لإقليم كردستان العراق في يوليو الماضي، وبطبيعة الحال، لم تصحب العمليات العسكرية المذكورة، أية إجراءات تنسيقية مع الحكومة العراقية. ومن خلال هذه العمليات، تسعى تركيا للسيطرة على مناطق وجود قوات حزب العمال الكردستاني، من خلال الوصول إلى جبل “هفت تبق” في منطقة شلادزي، واحتلال سلسلة جبال كارا ومهاجمتها جوًا وبرًا بالطائرات الحربية والهليكوبتر والطائرات بدون طيار، فضلًا عن القصف المدفعي، وذلك بهدف تأمين ما تعتبره أنقرة “منطقة عازلة” أو “منطقة آمنة” على حدودها مع العراق، الأمر الذي يعني – بعين أمور أخرى – فقدان حكومة كردستان العراق نحو 75% من سلطتها على محافظة دهوك الحدودية مع تركيا، لاسيما بعد توغل القوات التركية بما يتجاوز 1000 جندي و300 دبابة، وإقامة نقاط أمنية لتفتيش المارة، فضلًا عن تهجير عشرات العائلات من بعض المناطق، مثل العمادية ودابرلوك في محافظة دهوك، بما يؤكد مُمارسة السيادة التركية على الأراضي العراقية، وهو ما اكتفت الحكومة المركزية في بغداد تجاهه بالتنديد، ومطالبة أنقرة بمراعاة حسن الجوار رغم التجاهل التركي لنحو 300 مذكرة احتجاج، لانتهاكات تركية منذ عام 2019.
بطبيعة الحال، تفتقر العمليات العسكرية التركية المذكورة للأساس القانوني، الأمر الذي تحاول أنقرة الالتفاف عليه، بالزعم أنّ لها الحق في إنشاء قواعد عسكرية داخل الأراضي العراقية، وفقًا لاتفاقية سابقة ترجع لعام 1984 وفقًا لأنقرة، وإن كانت الوقائع التاريخية الموثّقة تُفنّد المزاعم التركية، فالاتفاقية المزعومة ما هي إلّا وثيقة، لا ترقى إلى مستوى “الاتفاقية”، حيث كانت “محضر اجتماع” تم التوقيع عليه خلال لقاء جمع وزير الخارجية الأسبق طارق عزيز مع نظيره التركي آنذاك، بما يسمح للقوات التركية بالتوغل في الأراضي العراقية لمدة عام واحد فقط، وبمسافة لا تتجاوز خمسة كيلومترات. الأمر الذي يعيد إلى الأذهان “اتفاقية أضنة” التي وقعتها تركيا مع النظام السوري، خلال حكم الرئيس الأسبق حافظ الأسد في عام 1998، وتحديدًا في الملحق الرابع من الاتفاقية، والذي يُجيز للقوات التركية الحق في التوغل في الأراضي السورية بعمق 5 كم، وذلك في حال إخفاق الجانب السوري في اتخاذ التدابير الأمنية المنصوص عليها في الاتفاقية، والتي كانت تتركز في المقام الأول على ملاحقة وحدات حزب العمال الكردستاني آنذاك، ولهذا فكما وسَّعت أنقرة أهدافها، عن عمق 5 كيلومترات في الحالة السورية، فإنّها تسعى أيضًا لخلق ما تعتبره “منطقة عازلة” على الحدود العراقية، بعمق يتراوح بين 30 -40 كيلو متر، لتصل إلى منطقتي قنديل وغارا، وذلك استغلالًا لحالة الضعف التي تعاني منها الدولة، في كل من سوريا والعراق.
ما سبق يعني أنّه ما بين اتفاقية أضنة 1998، والمحادثات الأخيرة مع الحكومة العراقية، تظل ملاحقة حزب العمال الكردستاني أحد الركائز الأساسية، ومحددات السياسة الخارجية التركية في محيطها الإقليمي، حتى وإن كان ذلك على أساس اختراق السيادة الوطنية للدولة العراقية والسورية، برًّا وبحرًا وجوًّا.
التنمية مقابل السيادة
لطالما لجأت تركيا لتوظيف ورقة الاقتصاد والتنمية في الضغط على الحكومة العراقية ومساومتها، وقد تمثَّلت أبرز هذه الضغوط في ورقة المياه من خلال عددٍ من السدود، التي أنشأتها منذ سبعينات القرن الماضي، مثل سدود كيبان وكراكايا وأتاتورك على نهر الفرات ونهر أليسو على نهر دجلة. كما تمثَّلت أخر محطات هذه الضغوط في التوقيع على اتفاقية، لإدارة الموارد المائية خلال زيارة أردوغان لبغداد في أبريل الماضي، وتنصّ هذه الاتفاقية على “حصول العراق على حصته العادلة” من المياه إلى نهري دجلة والفرات، الذَين ينبعان من تركيا، لكنّ الاتفاقية المذكورة قد قُوبلت بتحفظ من جانب خبراء المياه، الذين اعتبرها تفتقر إلى الوضوح فيما يخص تحديد الطبيعة “المحلية” أم “الدولية” لنهري دجلة والفرات، حيث لم تُلزم الاتفاقية بالاعتراف بأنّهما نهرين دوليين، كما تفتقر الاتفاقية لتحديد مفهوم أو كمية “الحصة العادلة” من المياه، ولم تلزم الاتفاقية أيضًا أنقرة بالاعتراف بطبيعة بما يكرس المصلحة التركية على حساب العراق، الذي يعاني من الشُحِّ المائي.
كما يُمكن النظر للاتفاقية المذكورة باعتبارها مُحصِّلةً للضغوط التركية من جهةٍ، وتصوّر الحكومة العراقية بأنّها تمثل حدًا أدنى للتفاهم مع تركيا، بشأن ضمان استمرار تدفق المياه عبر نهري دجلة والفرات، حيث غلَّبت الحكومة العراقية الافتراض، بإمكانية استفادة تركيا من الثروات النفطية العراقية، مقابل ضمان الحصول على حِصَص من مياه النهرين، وإن كان ذلك من خلال اتفاقيةٍ غير ملزمةٍ أو واضحةِ المعالم.
وفي السياق ذاته، يسعى الجانب التركي لتعظيم إمكانات التعاون الاقتصادي التنموي، بما يُكرِّس الهيمنة التركية على الاقتصاد العراقي، حيث تم الإعلان مؤخرًا عن بدء التشغيل الرسمي لخط الكهرباء، الذي ينطلق من تركيا إلى محطة توليد غرب الموصل، عبر خط يبلغ طوله 115، يزود محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك شمالي العراق.
ما سبق، يؤكده الخلل في ميزان التبادل التجاري بين البلدين، الذي يقدر بـ 20 مليار دولار، حيث تعد العراق خامس أكبر مستورد للمنتجات التركية من الحبوب، المواد الغذائية، المواد الكيميائية والمعادن، كما يؤكده أيضًا اضطراب صادرات النفط العراقي، التي تمر من إقليم كردستان العراق بدون موافقة الحكومة المركزية في بغداد، والتي توقفت منذ أكثر من عام، بما يكبد العراق خسائر بمليارات الدولارات. وإن كان الجانب العراقي يعول على تنفيذ مشروعات تنموية، بوساطة وتمويل خليجي مثل مشروع “طريق التنمية”، الذي يفترض أن يبدأ من ميناء الفاور إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. غير أنّ هذا المشروع، الذي يرجع إلى عهد حكومة نوري المالكي في ربيع 2010، كان يهدف لنقل بضائع الترانزيت من الجنوب إلى الشمال كجزء من خطة، لإنشاء شبكة طرق برية تمتد عبر العراق مرورًا بسوريا أو تركيا، لتصل إلى شواطئ المتوسط، ومن المفترض أن يتضمن هذا المشروع، عددًا من الطرق السريعة وسكك الحديد، التي تمتد من أقصى جنوب العراق إلى الحدود العراقية التركية، حيث معبر “فيشخابور” بتكلفة تتجاوز 17 مليار دولار، ويتم تنفيذ على ثلاثة مراحل تنتهي عام 2050، لكن ذلك لا يعني الضمان الكامل لنجاح تنفيذ المشروع، رُغم الدعم والتمويل الخليجي، إلّا أنّه سيظل مرهونًا بقدرة الحكومة العراقية، على تحقيق الاستقرار السياسي والأمني الداخلي اللّازم لتنفيذ المشروع، بجانب التأكيد على الدعم الإيراني للمشروع، وعدم معارضتها له، فضلًا عن التحديات الأمنية، التي تواجه المشروع في المناطق الحدودية بين العراق وتركيا، وهو ما يتعزز بحرص أنقرة على تبني المقاربة الأمنية البحثة، لمواجهة إشكالية حزب العمال الكردستاني، وتجاهل السبل السياسية والحوار مع المكونات الكردية ذات الصلة.
وساطة السوداني بين أنقرة ودمشق
بجانب ما سبق، لا تنفصل التطوّرات الأخيرة عن مساعي الرئيس التركي، لتعزيز مساعي الحكومة التركية، للعب دور الوساطة بين أنقرة والنظام السوري، وهو ما كشفت عنه تصريحات لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مطلع شهر يونيو الماضي، عبر إحدى وسائل الإعلام التركية، أنّ بلاده ترعى جهودًا للوساطة من أجل تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري في دمشق، وهو ما سبقه تصريح لأردوغان بأنّه “لا يوجد أي سبب يمنع إقامة علاقات بين أنقرة ودمشق” وكان ذلك ردًّا على تصريحات من بشار الأسد تمضي في الانفتاح على نفس الاتجاه.
ويبني موقف السوداني على محاولة الاستفادة من خبرات سابقة للوساطة، أبرزها المساهمة في التهدئة بين السعودية وإيران، الأمر الذي يتصوّر من خلاله رئيس الوزراء العراق، إمكانية تعزيز الدور الإقليمي للعراق، من خلال مثل هذه المبادرات. غير أنّ ذلك لا ينفي وجود تحديات لا تزال قائمة في مواجهة مساعي أنقرة، للتقارب مع النظام في دمشق، مثل تدني مستويات الثقة المتبادلة بين الجانبين، لاسيما فيما يتعلق بمشكلة عودة اللاجئين السوريين من تركيا، وتباين الرؤى بخصوص بعض التفصيلات على الأرض، مثل دعم تركيا للتنظيمات المتطرّفة في إدلب، ومخططات تركيا في حلب وغيرها، لكن ذلك لا يعني أن يظل الباب يظلّ مغلقًا أمام التقارب بين بشار وأردوغان، لاسيما وأنّ كليهما يتشاركان الرغبة في إجهاض تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق تركيا، وملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وهو ما تؤكدّه اتفاقية أضنة لعام 1998، والتي تمّت في ظروف أو ضغوط مشابهة لما تمارسها أنقرة بحق العراق في الوقت الراهن.
أخيرًا، فإنّ المحادثات الأخيرة بين تركيا والعراق، تأتي في سياق مسلسل الضغوط، التي تتعرض لها بغداد من جانب أنقرة، التي تسعى للاستفادة الوضعية الجيوستراتيجية للعراق، بما يضمن مشاركة تركيا في أحد خطوط النقل الدولية، وبخاصة بعد استبعاد أنقرة من مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا، الذي تم الإعلان عنه خلال قمّة العشرين في سبتمبر 2023. كما تأتي المحادثات المذكورة بالتزامن مع العمليات العسكرية، التي تسعى من خلالها أنقرة، لرسم خط أمني يبدأ من منطقة شلادزي، ويمتد إلى قضاء باتيفا، ويمر عبر ناصية ديرلوك وبامرني وبيكوفا، بحيث تكون جميع القرى والبلدات خلف هذا الخط، تحت السيطرة العسكرية التركية، وهو ما يعني ضمان دعم الحكومة المركزية العراقية لهذه العمليات، حتى وإن كان ذلك على السيادة على الأراضي العراقية، وهو ما يلقى استهجانًا بين العراقيين، عبَّرت عنه زوجة الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، السيدة شاناز ابراهيم في منشور لها على حسابها على منصة “X” الإلكترونية، والتي وصفت فيها التطوّرات الأخيرة في دهوك، خلال التوغلات العسكرية التركية فيها، بأنّها “تحمل بصمة احتلال”، مضيفة بأنّ “سيادة العراق في خطر”، لاسيما وأنّه من بين ما أسفرت عليه هذه العمليات العسكرية تدمير مدرسة وكنيسة، ذلك أنّ السلوك التركي يفتقر للسند القانوني، إذ لا تتوفر أية موافقة رسمية من الحكومة العراقية، بشأن هذه الانتهاكات التركية لأراضيها.